-->

شريط الأخبار

عنوان القصة: "همسات الظُّلم"

عنوان القصة: "همسات الظُّلم"

"رنا! قومي يا بنتي، مش كل يوم عُرس، العيلة كلها تحت بتستنى تطلع بنت أختي عروسة، قومي!"

صوت خالتي سميرة جعل قلبي يختنق من الضيق. فتحت عيوني ببطء وأنا أقاوم دموعي، لأني عارفة إنه لو نزلت دموعي، ما حدش هيشوفها أو يهتم.


"حاضر يا خالتي..."


أنا رنا، عمري 19 سنة. متوسطة الطول، شعري أسود ناعم وعيوني بنيّة. يتيمة الأم والأب من وأنا عندي 5 سنين. لما توفى بابا وماما، انتقلت أعيش عند خالتي سميرة وزوجها عمّي حسن. للأسف، عمّي كان طيب لكن ضعيف أمام زوجته. حياتي عندهم كانت مليانة تعب، كنت أشتغل في البيت زي الخادمة، لكن دايماً كنت أقول لنفسي: "ربنا كبير".


كان نفسي أدخل كلية التمريض بعد الثانوية العامة، لكن خالتي قالت:

"تعليم إيه؟ هتتعلمي عشان تضيعي فلوسنا؟ احنا أولى بيها!"


واليوم... يوم العُرس! مش فرحي... لكن سجني الجديد.

العريس دفع مهر عالي جداً بدون ما يطلب حاجة من أهلي. ما جهزوا لي لا عفش ولا حتى شنطة هدوم. كل اللي قالوه: "العريس هيصرف عليها." حتى اسمه أنا معرفهوش، ولا شفته، لكن واضح إنه أكبر مني بكتير.


خلصت تنظيف البيت ومسحته كله، وجه وقت الاستحمام. لبست الفستان الأبيض اللي جابوه أهل العريس. كان فستان جميل، كل بنت ممكن تحلم تلبسه، لكن أنا؟ كنت شايفاه كفن.


نزلت تحت وأنا جاهزة. كنت أحس قلبي زي الطبل، لكن خطواتي كانت بطيئة جداً.

خالتي قربت مني وقالت بحدة:

"اسمعي يا بنت، مش عايزين فضايح. العريس وأهله ناس محترمين، خليكي مؤدبة وامشي زي الملاك."

<><>

ركبت عربية العريس مع الجدة "صباح" اللي شكلها كان وقور جداً، ومعاها راجل خمسيني. طول الطريق وأنا ساكتة، مش بفكر غير في مصيري. لما وصلنا، دخلت قصر كبير جداً. كنت مذهولة، عمري ما تخيلت إن في مكان زي ده موجود.


الجدة أخدتني لغرفة وابتسمت بلطف:

"خدي راحتك، وحياتك هنا هتكون أحسن من أي حياة عشتيها قبل كده."


لكن أنا قلبي كان بيقول غير كده.


في الليل، سمعت خطوات تقرب من الغرفة، وفجأة اتفتح الباب ودخل شخص.

كان شاب وسيم عكس ما كنت فاكرة إنه أكبر مني بكتير، كان طويل، بشرته قمحية، عيونه غامضة ومليانة تحدي.


"أنتِ العروسة؟"

"نعم..." رديت وأنا مش قادرة أرفع عيني.


قرب مني وقال بصوت بارد:

"شوفي، أنا اسمي يوسف، وأنا ما كنتش موافق على الجوازة دي. لكن بسبب ظروف معينة، أهلي أصروا. وإحنا هنا زي الغرباء، كل واحد فينا ليه حياته، ولو حاولتي تتعدي حدودك، مش هيكون لك مكان في القصر."


ما كنتش عارفة أرد، ففضلت ساكتة، ودموعي كانت بتغرق عيوني. يوسف سابني وخرج من الغرفة، وأنا فضلت أفكر: "ليه حياتي كده؟ ليه الظلم ده؟"


خرج يوسف من الغرفة وأنا قلبي مليان خوف وحيرة. كنت قاعدة على طرف السرير، دموعي تسيل بهدوء. كان واضح من كلامه إنه مش قابل الجوازة دي، وإنه شايفني مجرد عبء فرضه أهله عليه. حاولت أتماسك، وقلت لنفسي: "ما حدش هيقدر يكسرك يا رنا، أنتِ أقوى من كده."


مر أول يوم في القصر ببطء شديد. كنت أسمع ضحكات بعيدة وصوت موسيقى خافت من الدور الأرضي. حسيت إني وحيدة في وسط عالم غريب وكبير. الصبح، قررت أنزل تحت أشوف إيه اللي مستنيني. المكان كان مهيب، جدرانه مليانة لوحات، ورائحة العطر الفاخر مليا المكان. شفت الجدة صباح قاعدة في الحديقة بتقرأ كتاب. لما شافتني، ابتسمت وقالت: "تعالي، اقعدي معايا."


قعدت جنبها وأنا بحاول أتصرف طبيعي، لكنها حست بارتباكي وقالت بهدوء: "أنا عارفة إن الوضع صعب عليكِ، لكن صدقيني، كل حاجة بتتغير مع الوقت. المهم تعرفي إزاي تفرضي احترامك."

ابتسمت لها وشكرتها، لكنها قطعتني وقالت: "لا تشكريني، اثبتي نفسك. يوسف مش إنسان سهل، لكن عنده قلب طيب... لو عرفتي توصليه."


كان كلامها فيه لمحة أمل، لكنه ما طمنيش بالكامل. بعد أيام قليلة، يوسف بدأ يظهر بشكل أكتر. كنا بنشوف بعض على مائدة الطعام، لكنه ما كانش بيتكلم إلا نادراً. كان دايماً شكله مشغول، وكأنه بيهرب من أي تواصل معي. حاولت أكون لطيفة، أسأل عن يومه، أعمل مجهود أبين إني موجودة، لكن كان رده دايماً مختصر أو حتى بدون رد أحياناً.


وفي يوم، وأنا بنضف مكتبة صغيرة في الصالة، لقيت ظرف قديم مكسور الحواف، مليان صور ورسائل. من فضولي، فتحت واحدة وبدأت أقرأ. كان مكتوب فيها كلام مليان حب وحنين... توقفت لما سمعت صوت يوسف من ورايا.

"إنتِ بتعملي إيه هنا؟!" صوته كان حاد جداً، خلاني أرجع الورق بسرعة وأقول: "أنا آسفة... ما كنتش أقصد."

قرب مني وخد الظرف بإيده، وقال بصوت منخفض، لكنه مليان غضب: "ما تقربيش من حاجتي مرة تانية."


مشيت بسرعة للغرفة، وأنا مش قادرة أوقف دموعي. مش بس من الخوف، لكن كمان من شعور إن وجودي هنا زي الغلطة الكبيرة. قررت من اللحظة دي إني أبعد تماماً، أعمل اللي عليا وأعيش حياتي في حدودي، بدون ما أحاول أغير أي حاجة.


لكن الأمور اتغيرت بشكل غير متوقع بعد الحادثة اللي حصلت في ليلة شتوية باردة. كنت سمعت صوت الجدة صباح بتنادي بخوف من الحديقة. خرجت بسرعة، لقيتها واقعة على الأرض ومش قادرة تتحرك. حاولت أشيلها وأساعدها، لكن كان وزنها تقيل. فضلت أصرخ وأنادي على أي حد، لكن ما كانش في حد قريب. بآخر قوتي، قدرت أدخلها جوة وأجيب لها المساعدة. من بعدها، الجدة بقت أقرب شخص ليا، ودايماً تقول ليوسف: "رنا بنت شجاعة، وربنا رزقك بيها."


بدأ يوسف يتغير تدريجياً. لاحظت إنه بيحاول يبقى ألطف في كلامه، وحتى بيقعد معايا على المائدة ويسألني عن يومي. لكن رغم التغيير ده، كان لسه فيه حواجز بينا. وكنت متأكدة إن الحواجز دي ليها علاقة بالماضي اللي ما كنتش أعرف عنه كتير.

<><>

في يوم، بالصدفة، سمعت يوسف بيتكلم مع الجدة في مكتبتها. كان صوته هادي لكنه مليان ألم: "أنا مش قادر أنسى اللي حصل يا جدة. مش قادر أصدق إني مضطر أعيش حياة فرضوها عليا. حتى لو رنا طيبة... أنا مش جاهز أفتح قلبي لحد تاني."

سمعت الكلام ده ووجعتني كل كلمة. رجعت على غرفتي وقررت وقتها إني مش هضغط عليه. إذا كان وجودي هنا غصب عنه، فأنا كمان مش هكون سبب في إزعاجه أكتر.


الأيام استمرت، لكن علاقتنا بقت أكتر إنسانية. يوسف بدأ يتكلم معايا عن شغله، عن حلمه في إنه يفتح مشروعه الخاص بعيداً عن العيلة. وأنا كمان شاركته أحلامي اللي نسيتها مع الوقت. كنت بحكي له عن حبي للتمريض، وعن أمنيتي في إني أساعد الناس. شفته وهو بيتأثر بكلامي، وكأنه لأول مرة بيشوفني كإنسانة ليها مشاعر وأحلام.


وفي ليلة، كنت قاعدة في الحديقة أتأمل النجوم. لقيته جاي وقعد جنبي بهدوء. قال: "رنا... أنا عارف إنك مريتِ بكتير، وعارف إني كنت صعب التعامل معايا. بس... يمكن إحنا الاتنين محتاجين ندي نفسنا فرصة."


كان كلامه بسيط، لكنه فتح باب أمل جديد. بصيت له وقلت: "أنا مش عايزة منك غير إننا نكون صادقين مع بعض." ابتسم لأول مرة ابتسامة مليانة صدق، وكأنه قرر إنه يبتدي من جديد.


الأيام اللي بعد الليلة دي كانت مختلفة. ما كنتش متوقعة إنه يوسف فعلاً يلتزم بكلامه. صحيح ما كانش فيه تغيرات درامية، لكنه بدأ يبين اهتمام بسيط. كان يسألني عن يومي، أو يعزم عليا نشرب قهوة مع بعض في الحديقة. حاجات بسيطة، لكنها كانت تعني لي كتير.


مرة وأنا في المطبخ بجرب أعمل وصفة جديدة، دخل يوسف فجأة. استغربت وجوده لأنه نادرًا ما يدخل المطبخ. قال بابتسامة خفيفة: "إيه الريحة الحلوة دي؟"

رديت وأنا بحاول أتصرف طبيعي: "بجرب أعمل كيكة بالشوكولاتة... بس مش متأكدة هتطلع كويسة."

قرب مني وقال: "طب جربيها، وأنا أول واحد يحكم."


ضحكت لأول مرة وأنا شايفة الجانب البسيط واللطيف ده منه. لما الكيكة خلصت، قعدنا في الحديقة وأكلنا منها. شكرني وقال: "أحلى كيكة أكلتها." كان كلامه بسيط، لكن حسيت إنه خرج من قلبه.


في يوم تاني، وأنا بقرأ كتاب في المكتبة، شفت يوسف داخل شايل ظرف كبير. قال لي: "كنت بفكر إنك تستاهلي وقت لنفسك بعيد عن كل حاجة. ده اشتراك في ورشة صغيرة عن التمريض في المدينة... لو تحبي."

وقتها حسيت إن قلبي وقف للحظة. كنت شايفة في عينيه إنه بيحاول يعتذر بطريقة غير مباشرة عن كل اللي فات. شكرته وأنا مش مصدقة إنه أخيرًا بدأ يشوفني كشريكة مش مجرد ضيفة.


لكن، مع كل التطورات دي، كان لسه فيه أسئلة بتدور في دماغي. مرة وأنا بأرتب حاجاتنا القديمة في الخزانة، لقيت نفس الظرف اللي شفته أول يوم. فضولي كان قاتل، لكن ما قدرتش ألمسه. كنت خايفة أعرف حاجة تخرب اللي بينا. لكن بعد أيام، يوسف هو اللي فتح الموضوع بنفسه.


قال لي وهو قاعد في الحديقة قدامي: "عارفة، يمكن كنت قاسي عليكِ في البداية... بس ده كان بسبب حاجات كتير. اللي كنتِ شوفتيه يومها... ده كان جزء من الماضي اللي كنت بحاول أدفنه."

سكت لحظة، وبعدين كمل: "كنت مرتبط بواحدة من فترة طويلة، وكنت فاكر إنها حب حياتي. لكن اكتشفت إنها خانتني مع أعز واحد صاحبي. من ساعتها، ما بقيتش أثق في أي حد بسهولة."


حسيت وقتها إنه عايز يقول أكتر، لكن وقفته وقلت: "يوسف، إحنا مش محتاجين نتكلم عن اللي فات لو ده هيوجعك. اللي يهمني هو اللي جاي، وإزاي نقدر نعيش حياة كويسة مع بعض."

نظر لي بعينه اللي كانت مليانة مشاعر مختلطة بين الامتنان والندم. قال: "شكراً، رنا. شكراً إنك صبورة معايا."


ومع مرور الوقت، علاقتنا بقت أقرب وأدفى. بقينا نتشارك تفاصيل حياتنا اليومية، ونحاول نبني ذكريات حلوة سوا. صحيح البداية كانت صعبة، لكن يوسف أثبت إنه قادر يتغير، وأنا كمان كنت جاهزة أدي للعلاقة دي كل جهدي.


وفي يوم، وأنا خارجة من الورشة اللي سجل لي فيها، لقيته مستنيني بالعربية برا. أول ما شافني، قال بابتسامة: "جاهزة للمفاجأة؟"

سألته وأنا مستغربة: "مفاجأة إيه؟"

قال: "استني، هتعرفي."


خدني على مكان جميل على أطراف المدينة. كان بيت صغير، بسيط، لكنه مليان دفء. قال لي: "ده مشروع صغير كنت شغال عليه من فترة. فكرت إنه ممكن يكون مكان جديد نبدأ فيه حياتنا مع بعض... لو تحبي."


ما كنتش مصدقة إنه يوسف اللي قدامي. ده مش الشخص اللي كنت متوقعة أعيش معاه حياة باردة وخالية من المشاعر. كان شخص جديد، واحد بيحاول يبني معايا حاجة حقيقية.


بصيت له وقلت: "أنا معاك، يوسف. مهما كان."

ابتسم وقال: "وأنا كمان، رنا. من النهاردة... كل حاجة جديدة."


وكانت دي البداية الحقيقية لعلاقتنا.